"هنا، عند مُنْحَدَرات التلالِ، أمامَ الغروبِ
وفُوَّهَةِ الوقتِ،
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِّ،
نفعَلُ ما يفعَلُ السُجَناءُ،
وما يفعلُ العاطلون عَن العَمَل:
نُرَبِّي الأَمَلْ."
محمود درويش
يقال أن الألم يُبرز أفضل ما في الإنسان .
حين ارتكبت إسرائيل واحدة من أفظع جرائمها في يوليو 2014 في حي الشجاعية والتي راح ضحيتها العشرات من الناس الأبرياء، صرتُ إنساناً آخر. لقد اختلطت مشاعري وقتها: عجز، رعب، ألم، وحدة، عزلة، كآبة، وعناد كبير... ولم يمكنني، كوني ناشطاً، من منع الطائرات والدبابات الإسرائيلية، أمريكية الصنع، من استهداف خزاعة، ولا من قصف المنازل في بيت حانون. لقد كان طعم العجز شديد المرارة في حلقي حين تواطأت الليالي الطويلة الحالكة مع إسرائيل ضدي شخصياً!
لم أتمكن وقتها من استيعاب كل تلك الأخبار العاجلة التي كانت تبثها محطات الإذاعة المحلية عبر مراسليهم في كل مناطق قطاع غزة دفعة واحدة . الأخبار الممزوجة بالدم و الأشلاء، تلك التي تعود لأصدقائي، أبناء وبنات إخوتي، طلابي، رفاقي، زملائي، دمي و أشلائي أنا.
وقتها بدأت الغناء...!
"حيدر! أَخرِجْ سلاحك الوحيد الذي تملكه في هذه الليلة الظلماء، دافعْ عن نفسك بينما تنهمر دموعك! هم ينتشون فرحين على الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة! إنهم يقيمون حفلات شواء ويشربون البيرة طرباً بمقتل أطفالنا!"
"الشجاعية! الشجاعية! الشجاعية!"
"خزاعة! خزاعة! خزاعة!"
دموع
كنت أحمل سلاحي، وهو هاتف صغير، بالقرب من فمي، ولحيتي مبللة بالدموع. وكان ميلاد أغنيتي الأولى، شعرت أنه " طفل " معمد بالدماء. "الحب في زمن الإبادة" كان العنوان الذي منحته لكلمات الشاعر المصري عبد الرحيم منصور، والتي كتبها لاستذكار مجزرة دنشاوي في مصر عام 1906.
"بين المخاض والألم
من تاني بنتولد
بين المخاض والألم
الماضى بيتولد
والحكمة بتتولد
والغنوة بتتولد
كل اللي عدى وراح
لسة في عنيكى بيتولد."
لا أعلم بالضبط لماذا اخترت هذه الأغنية لتسجيلها على هاتفي النقال. ثم حدث أن سمعها بعض الرفاق الذين ساهموا في فكرة تحويلها إلى فيديو كليب و كان هذا جزءاً من جهودهم الجماعية لدعم صمودنا في غزة الباسلة، المكروهة من "الشقيق" قبل العدو، غزة "السوداء"، المعزولة عن العالم!
تفتيت الصور النمطية
أًصيب أصدقائي ورفاقي بالدهشة حين بدأت الغناء، خاصة وأن الأكاديميين في الوطن العربي عامة، وفي غزة خاصة، معروفون بالصرامة و"الجدية،" والحقيقة أنني كأكاديمي وكناشط في حركة مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها، وكعضو رئيسي في مجموعة الدولة الديمقراطية الواحدة، كنت سعيداً بتحطيم هذه الصورة النمطية. ولكن لماذا ألقي بالاً للصور النمطية؟ ألسنا ضد أكثر التعميمات تقليدية؟ ألا يفترض بنا أن نبدّد هذه الأفكار المسبقة التي تبدو في بعض المراحل غير قابلة للتغيير؟ ولكن الأهم، وبما أن ضحايا غزة يموتون بآلة الحرب العنصرية، والتي تستهدف أكبر عدد ممكن من الأطفال والنساء بالقدر الذي يمكن اسرائيل من الإفلات من العقاب، لأن الضحايا الفلسطينيين وبكل بساطة لم يولدوا لأمهات من مجموعة دينية وعرقية مختلفة، ينبغي استغلال كل أداة ممكنة لسرد حياتهم وموتهم المأساويين. كنت على ثقة تامة أن المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد، كان سيهز رأسه تأييداً لهذا الكلام.
التحدي
لا أملك استوديو، ولا ميكروفون، ولا سماعات، ولا فرقة. لم يكن لدي إلا هاتف محمول ولاب توب وأغاني غنّاها فنانون مشهورون سابقاً في سياقات مختلفة. هنا يكمن التحدي: كيف أضع هذه الأغاني في سياق فلسطيني؟ بعد ذلك، أثارت مشاعري قصة سالم الشمالي، الشاب الذي قتل بدم بارد على يد قناص إسرائيلي بينما كان يبحث عن عائلته، وتم تصويره بالفيديو. هناك قصيدة رائعة كتبها صلاح جاهين، غناها العديد من الفنانين المشهورين، لخصت المأساة، المأساة التي تجسد غزة. قناص يمتلك حماية من رؤسائه ومجتمع دولي متواطئ، يقرر أن يلعب لعبة! إنه يستطيع أن يفعل ما يريد ثم ينجو بفعلته بسهولة، لمَ لا يستهدف شاباً يحاول أن يجد أفراد أسرته تحت أنقاض بيتهم المدمر في الشجاعية خلال وقف إطلاق النار الذي أعلنته إسرائيل؟ ألم يقوموا بشن ثلاث حروب ساحقة على غزة؛ وقام المجتمع الدولي المزعوم بإلقاء اللوم على "الطرفين"؟! ألم تقم إسرائيل بفرض حصار قاتل ومستمر منذ 2006، حصار تسبب بموت آلاف الأبرياء بينما لا تتخذ الهيئات الرسمية والمجتمع الدولي أي خطوة ملموسة بهدف وضع حد لذلك؟! وعليه يتم قتل سالم الشمالي في وضح النهار دون أي شعور بالندم.
عندها انتفضت حنجرتي، بكيت، وغنيت قصيدة "بحر الحياة" لصلاح جاهين:
"بحر الحياه مليان بغرقي الحياه
صرخت خش الموج في حلقي ملاه
قارب نجاه .. صرخت قالوا مفيش
غير بس هو الحب قارب نجاه!"
Lifeboat – بحر الحياة from One Democratic State Group on Vimeo.
نعم أنا أستطيع الغناء!
أردت أن أقوم بتسجيل كل حدث، كل نبضة، كل ومضة، وكل عاطفة ممكنة، فردية كانت أو جماعية. أما قدوتي فهم مغنون وكتّاب ثوريون، يحملون أعوادهم، أو قيثاراتهم أو أقلامهم، يدافعون عن الإنسان المظلوم، المهمش. أفكر بتشي جيفارا، وإدوارد سعيد، وستيف بيكو، وغسان كنفاني، وروزا لوكسمبورغ، ومارسيل خليفة، وأحمد كايا، والشيخ إمام، وفيروز، وإلى حد ما، عبد الحليم حافظ.
الرعب في خزاعة
عندما أعلنت إسرائيل وقف إطلاق نار آخر، ذهبت إلى خزاعة، و مشيت على أنقاض بيت، كان تحته جثث شهداء، في منظر مغرق في سرياليته. رأيت حمامة هناك، وكنت على يقين أنها كانت تنوح شعراً:
"كان مرة واحد شهيدي
دمه بيسري في وريدي
حواديته دابت في روحي"
غزة المهمشة
ولكننا لم نعد ضحايا صامتين؛ إننا متشبثون جداً بمقاومتنا؛ نحن نقود حركة لم يسبق لها مثيل لعزل إسرائيل العنصرية حتى تمتثل للقانون الدولي، لكننا نعلم، كما قالها نيلسون مانديلا، أن الطريق إلى الحرية طويل.
"مدوا الخطاوى.. مشوارنا لسة طويل
ومالوش بديل
وكل خطوة ع الطريق.. ع الطريق قنديل"
كوثر مصطفى
To Khader Adnan, on hunger-strike for more than 50 days | إلى البطل خضر عدنان from One Democratic State Group on Vimeo.
حتما سيأتي "النهار" (عبد الرحمن الأبنودي) على الرغم من "الطوفان" (صلاح جاهين). و"إذا الشمس غرقت" (أحمد فؤاد نجم), سوف "نحلف بسماها وبترابها" (الأبنودي) ونؤدي "فرض الوطن" (أيمن بكري) لنصون دماء "الشهيد" (كلماتي) و "بكل حبي للحياة وبكل بسمه فوق شفايف ولدي/ وبكل شوقي للفجر وشروقي/ وبكل نبض الثورة فى عروقي/ جتلك وأنا ضامم جراح الأمس/ حالف لرجعلك عيون الشمس" (محسن الخياط). كتب معظم هذه الاغاني شعراء معروفون بخلفياتهم الفكرية التقدمية في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، خصوصاً في فترة حكم عبد الناصر حينما كانت مكافحة الاستعمار والوطنية التقدمية هي القاعدة في عالم ما بعد الاستعمار، بما فيه الوطن العربي.
لكننا أيضا نقع في الحب.
لدينا لحظاتنا الرومانسية عندما يشتعل لهيب الحب ليلاً نهاراً. نتخيل أنفسنا "نغماً بين شفاه الحبيب" (مؤمن الشناوي)، و عندما يتم استهداف الزوجة الشابة المحبوبة بواسطة الزنانة الاسرائيلية، "يذكرني بها" الطفل الوحيد الباقي لأنه "يشبهها" (كوثر مصطفى).
أحياناً يقود الموت إلى نوع من الروحانية، شعور بـ "خيبة الأمل" من "أهلي وناسي" في عالم من "الذنوب" وأطلب من رب العباد أن "يسامحني" (جمال محجوب). ولكننا غير محصنين ضد الانتقاد؛ أليس لدينا "انقسام سياسي مريع على "الطريق" (عبد الرحمن منصور) بين فتح وحماس؟
المشوار الطويل نحو الحرية
كانت أمي قد توفيت في نفس العام الذي مات فيه والدي 2005، لاجئة تحن إلى "أرض الليمون الحزين"، حالها كحال ثلثي الفلسطينيين القابعين في سجن غزة. وظلت حتى يوم وفاتها تتحدث عن زرنوقة، تلك القرية المشهورة بزراعة الحمضيات:
"كم عام ومواسم عدو
وشجر اللمون دبلان على أرضه
وفينك؟
أنا من غيرك،أنا مش عاقل ولا مجنون
أنا مطحون."
عبد الرحيم منصور
على الرغم مما يبدو من سيطرة للنبرة الحزينة على هذه الأغاني، إلا أنها تبدأ بأغنية ثورية كانت على لسان كل مواطن عربي في ستينيات القرن المنصرم، تبدأ بقَسَم بألا نجعل "الشمس تغيب" أبدا، و تنتهي بوعد بأن نمد "الخطاوي" في مشوارنا الطويل نحو الحرية.
يُجملها محمود درويش، قائلا:
"في الحصار، تكونُ الحياةُ هِيَ الوقتُ
بين تذكُّرِ أَوَّلها
ونسيانِ آخرِها."
مثالياً، أتمنى أن يعطي هذا العمل فكرة، أو صورة، ولو مصغرة عن الفلسطيني الإنسان، الذي يعاني ويلات الاحتلال، والفصل العنصري، والحصار، والإبادة الجماعية. نعم هو عمل شبه فني،"هاو" عن المعاناة تحت نظام استعمار استيطاني وحصار إبادي. لكنه أيضاً يعكس تنويعات من المشاعر الإنسانية المختلطة تحت هكذا ظروف، من المقاومة الباسلة والإيمان المطلق بالحرية والعدالة الى العاطفة والشجن الوجودي!
لذلك تم إعطاء المجموعة عنوان غزة بلوز: دندنات الحب والموت والمقاومة.
___________________________________________________________________
غزة بلوز: دندنات الحب و الموت و المقاومة متوفر للشراء والتنزيل عبر متجر Indiepush.com
كما أن نسخ الأقراص المدمجة متوفرة للشراء عبر التواصل مع adie_mormech@hotmail.com
و يمكنكم الاستماع لعينة من الأغاني عن طريق مشغل الموسيقى في الأعلى.
تم تكريس هذه الأغاني من أجل دعم الشعب الفلسطيني وصموده في طريقه نحو العدالة الحرية. سيتم وهب جميع إيرادات بيع هذه الاغاني إلى الحركة الفلسطينية العالمية لمقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها BDS.